Tuesday, January 9, 2007

صحافيو غزة

تهديدات بالقتل واقتحام مكاتب ورصاص طائش وضغوطات نفسية كبيرة
صحافيو غزة .. الحقيقة المذبوحة على مقصلة الاقتتال الداخلي !

رام الله - يوسف الشايب:

"بتنا نخرج إلى العالم صور مخجلة حقاً، لكنه عملنا"، بهذه الكلمات بدأ زكريا أبو هربيد، المصور التلفزيوني لوكالة رامتان للأنباء في غزة، وصاحب تسجيل هدى غالية الشهير، حديثه عن الظروف الصعبة التي يعملون بها، في ظل الاقتتال الداخلي المستفحل في غزة، ويقول: المؤسف أننا، نحن الذين كنا نقف في وجه دبابات الاحتلال، ونصور بشاعة ما تتركب قوات المحتل من جرائم بحق أهلنا في غزة، نضطر اليوم إلى تصوير مشاهد الاقتتال الداخلي المقيتة.
ويضيف أبو هربيد: حين أنطلق بكاميرتي لتصوير هكذا أحداث، كثيراً ما يتعامل معك الناس، والمسلحون الملثمون كإرهابي، فأنت لابد أنك تخدم طرفاً معادياً ما دمت تحمل كاميرا .. كثيراً ما منعي مسلحون من التصوير، والمشكلة أننا مضطرون للرضوخ، لأننا في "هذه المعمعة لا ندري من أين يأتينا الموت، فالرصاص الطائش، وربما غير الطائش قد يطال الواحد منا في أية لحطة، لكنا كمصورين مجبورين على التوجه إلى حيث الحدث، مع أنني أتألم كثيراً عند تصوير هذه المشاهد التي تسيء لصورة جميع الفلسطينيين.
ويتذكر أبو هربيد: ذات يوم، وإثر توجهنا لتغطية مسيرة سلمية صوب المجلس التشريعي، بدأ إطلاق نار كثيف، وكاد أحد الزملاء المصورين يقتل، لولا العناية الإلهية، ولولا أنه افترش الأرض .. للأسف بات العديد من المصورين يشترون ما تبقى من أعمارهم، ولا يغامرون كثيراً من أجل لقطة قد تكون أعمارهم ثمناً لها.
وإن كان مصورو وكالات الأنباء العالمية، والفضائيات، الأكثر التصاقاً بالميدان، فإن مراسلي وسائل الإعلام المحلية، والعربية، والعالمية، في غزة، وبدرجة أقل في الضفة الغربية، يعانون الكثير، ما بين تهديدات بالقتل، واتهامات، وضغوطات تجعلهم يفقدون الكثير من أعصابهم، ما يعني إنتاجية أقل في بعض الأحيان، ومواربة على الحقيقة في أحيان أخرى، وضرورة التعاطي مع التصريحات المتضاربة للأطراف المتحاربة.
ويؤكد وائل الدحدوح، مراسل قناة الجزيرة في غزة، أن "ضغوطات الاحتلال، والمخاطر المرافقة لتغطية أية عملية عسكرية إسرائيلية في القطاع، لا ترافقها تلك الأجواء النفسية الصعبة التي نعيشها هذه الأيام، جراء التناقضات الداخلية"، ويقول: الوضع أصعب من الصعب .. نحن نعمل تحت ضغط نفسي غير مسبوق، خاصة في ظل الاستقطاب الحاد بين هذا الفصيل أو ذاك، وهذه المجموعة أو تلك، علاوة على العائلات.
ويضيف الدحدوح: كثيراً ما نتلقى تهديدات، تارة بالتصريح، وتارة بالتلميح، وأخرى عبر الضغوطات، أو الملامة والعتب .. في بعض الأحيان يصل الواحد منا إلى قمة العصبية، جراء محاولة غير واعية لتفريغ شيء من هذا الضغط.
ويوافقه سيف الدين شاهين، مراسل قناة العربية في غزة، الرأي، مؤكداً أن "الإشكال الأكبر يكمن في الثقافة السياسية السائدة لدى الفصائل والأحزاب، فإذا لم يكن التقرير الذي أعده يتوافق مع رؤية هذا الفصيل أو ذاك، ومع روايته حول الأمور، فإنني منحاز للطرف الآخر".
ويضيف شاهين: الجميع يحسب علينا الأنفاس، ويقيسون التغطية الإخبارية بالحرف والكلمة، وإن لم تعتدل كفة الميزان تماماً، أو رفض أي طرف الاعتراف بهذا الاعتدال، فإنه الانحياز.
ويؤكد شاهين: بالتأكيد نشعر بخطر دائم، فلا محرمات لدى معظم الأطراف المتصارعة في غزة من التطاول على الصحافيين، والمساس بهم .. الأجواء التي نعمل بها خطيرة للغاية، فالاستقطاب لا يفرض نفسه على القيادات من جميع الأطراف، بل على معظم شرائح الشعب الفلسطيني .. نحن باستمرار نتعرض لتهديدات، ونخشى أن يأتي أرعن من هذا الفصيل أو ذلك، ليترجم انتقادات مسؤوله الذي يكن له قدسية ما، باتجاه الاعتداء على هذا الصحافي، سواء بإطلاق النار بقصد الإصابة، أو استهداف منزله أو أسرته، أو حتى قتله .. الغريب أن البعض يعلق أخطاءه على مشاجب الصحافيين، وكأننا من نحمل السلاح، ونقتل به أبناء شعبنا، لا هم.

في المنزل
ولا يزال فايز أبو عون، مراسل "الأيام" في غزة، والذي تعرض إلى أكثر من عشرين تهديداً، في الفترة الماضية، يتذكر كيف حولت مكالمة هاتفية من مجهول عيد ميلاد ابنته إلى كآبة وقلق، ويقول: قبل دقائق من إطفاء الشمع، جاءتني مكالمة هاتفية من مجهول يهددني بالقتل .. حاولت إخفاء الأمر عن أسرتي، كي لا تضيع الأجواء الاحتفالية التي باتت نادرة هذه الأيام، إلا أنني لم أستطع فانقلب الفرح إلى كآبة، وبقيت لأيام أعيش حالة من الضغط العصبي، ترجم إلى غضب غير مبرر، وقلق، وتوتر شديدين، إلى أن تدخلت بعض الوساطات، وتم تسوية الأمر.
ويؤكد أبو عون، أن الأجواء التي يعمل بها وصحافيو غزة، تنعكس كثيراً على سلوكهم في المنزل .. "نعمل في جو من القلق، والخوف، على مصيرنا، وحياتنا، وحياة أولادنا، خاصة أن الأمر بات يخرج عن نطاق التهديد، إلى التنفيذ في غزة، فالاقتتال الداخلي لا يبقي ولا يذر، وبات الجميع مستهدفاً في غابة من البنادق ذات الفوهات المشرعة، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك بالسلب على نفسياتنا، لنبدو أكثر عصبية، وتوتراً.
ويؤكد وائل الدحدوح ذلك بقوله: ولدي الأكبر، حمزة، ويدرس في الصف الخامس الابتدائي، بات يطالبني بإلحاح، في الساعات أو الدقائق القليلة التي يراني فيها، بالإقلاع عن العمل في مهنة الصحافة، مؤكداً أنه يكره هذه المهنة، ويرفض امتهانها ذات يوم، فهو يدرك تماماً الصعوبات التي نعيشها، والمخاطر التي نتعرض لها، خاصة في هذه الظروف.
وفي الوقت الذي ترفض فيه أسرة سيف الدين شاهين، خروجه من المنزل، في كل مرة يذهب فيها لتغطية حدث صاخب، خاصة في ظل أتون الحرب الداخلية المشتعلة في غزة، يؤكد نجل زكريا أبو هربيد، وهو طالب في الثانوية العامة، على مطالبة والده بالكف عن تغطية أحداث الاقتتال الداخلي، كون أن "الرصاص الأعمى قد يطال أي كان"، وأن الموت بهذا الرصاص "ليس شرفاً كما هو في حالة الموت برصاص الاحتلال".

آليات الخروج
وللخروج من أزمة الاتهام بالانحياز، وما يترتب عليه من تهديدات وضغوطات، يلجأ الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل إلى الاحتفاظ بشيء من الحقيقة داخله، ويقول: الأجواء لا تسمح بقول الحقيقة كاملة، وبالتالي نضطر لاستخدام مهاراتنا اللغوية للتعبير عن واقع الحال بطريق مواربة، ومفهومة، في ذات الوقت .. ما نعانيه كصحافيون وكتاب رأي ومحللون سياسيون في غزة، ضاعف من قوة الرقيب الداخلي لدينا، فبدلاً من شرطي أو اثنين في الرأس، تعمل كتيبة بأكملها هذه الأيام، فلا حماية أمنية، ولا أخلاقية، وحتى الحماية العشائرية، التي لا نقبلها كمثقفين، تبدو غير كافية.
ويضيف عوكل: مع إدراكنا بأن الوضع المتأزم الذي نعيش، يتطلب جرأة أكبر، إلا أننا نبدو أقل جرأة، وأقل قدرة على الكلام، خاصة أن تأثيرنا ليس كبيراً على شارع مسيس .. كان بالإمكان ممارسة البطولة إذا كنا نحدث زلزالاً في الرأي العام، لكن هذه الزلازل تصنعها الأسلحة، وقيادات الفصائل في بلادنا، وليس الصحافة .. نحاول الاقتراب من هموم الشارع، وملامسة الحقائق، دون التسبب لأنفسنا بالأذى.
ويرى وائل الدحدوح أنه للخروج من هذا المأزق، لابد من نقل وجهات النظر المتعارضة بتوازن دقيق، وهذه مهمة صعبة، كما يرى، إلا أنه يسعى باستمرار للنجاح فيها، في حين يتجه سيف الدين شاهين إلى "التعاطي مع الروايات المتعارضة والتي تنصب في مجملها على كيل الاتهامات المتبادلة، أو لروايات شهود عيان قد تطاولها الشكوك، لانحيازها لهذا الطرف أو ذاك"، خاصة مع صعوبة الوصول إلى مكان الحدث .. ويقول: الغريب أننا كنا نغطي أي اجتياح لقوات الاحتلال من موقع الحدث، أما الآن فلا نستطيع ذلك في أغلب الأحيان، فأنت لا تدري من أين قد يأتيك الموت.
وللخروج من دائرة الخطر، وربما الاستهداف، يؤكد فايز أبو عون، على ضرورة "إمساك العصا من المنتصف"، عبر وضع القارئ أمام الروايات المتضاربة، وترك حرية الخيار له في النهاية .. ويقول: لسلامتي، وسلامة أسرتي، قد أضع الحقيقة على الرف في الكثير من الأحيان، وأشدد على نسب الروايات إلى أصحابها، وأعتقد أن هذا لا يضرب مهنيتي كصحافي، غير مطلوب منه الإدلاء بشهادته، خاصة في ظل هذه الظروف المعقدة.

صحافيون أجانب
ولم يتأثر الصحافيون الفلسطينيون العاملون في المؤسسات الإعلامية المحلية، أو العربية، أو الدولية فحسب، بحالة الفلتان الأمني، والاقتتال الداخلي، المستشرية في القطاع، بل إن العديد من الصحافيين الأجانب، تعرضوا للخطف والتنكيل، آخرهم الصحافي البيروفي، رازوري، والذي لا يزال محتجزاً لدى خاطفيه، منذ الاثنين الماضي، ما دفع منظمة مراسلون بلا حدود إلى اعتبار قطاع غزة من أخطر المناطق على الصحافيين، وأكثرها انتهاكاً لحقوقهم، حيث حل القطاع ثانياً على المستوى العربي، بعد العراق، وفي العشر الأوائل عالمياً، ما دفع الكثير منهم إلى "الهرب من غزة" نحو الضفة الغربية، أو القدس، أو حتى خارج الأراضي الفلسطينية، حتى إن العديد من الصحافيين الفلسطينيين يؤكدون أنه بالكاد تجد صحافياً أجنبياً واحداً في القطاع، وفي حال تواجدهم فإنهم يعجون على أصابع اليد الواحدة.
ويؤكد باتريك أدجار، مجير مكتب وكالة "فرانس برس" للأنباء في القدس، أن "العمل يبدو صعباً، وربما مستحيلاً في هكذا أجواء، فحالة الفلتان الأمني التي تعيشها غزة، تؤثر على الصحافيين بشكل كبير"، مؤكداً أن "رحيل العديد من الصحافيين عن القطاع، لا يضر بالمؤسسات الصحافية العاملة هناك فحسب، بل يضر بسكان غزة جميعا .. الأوضاع صعبة بالتأكيد هناك .. يمكننا أن نتخيل جميعاً ماهية الأوضاع التي ليس بإمكان لصحافي معها ممارسة عمله بأمان، أو بحرية".

(انتهى)

No comments: